تأبين الوالد محمد محمود "اندحمنَ" ولد الطالب محمد.

اثنين, 2022-02-28 13:22

يُقال أن العصافير تشدو صباحاً كوسيلةٍ لإخبار بعضهم أنهم تجاوزوا الليل؛ أن الظلام انقضى عنهم على خير. ويُقال أننا نكتب لذات الأسباب: لنخبر الآخرين أننا بخير، أننا تجاوزنا الغمة ولا نزال على قيد الحياة.
أما بعد، فإنني على قيد الألم، ولا يجيرني في مصيبتي سوى رحمة ربي. 
ثم إنني على قيد الحب والامتنان، أوَ كل أبٍ أبي؟
يُذكر أن الحزن هو ثمنٌ ندفعه مقابل الحب، فإن كان هذا الوجع الممزق هو ما يجب أن ندفعه مقابل أن نذكر عند الله بكَ، ونكتب عنده، كان "أبوهم" رجلاً صالحاً، فهيتَ لك يا حزن!
أنا إبنة محمد محمود ولد الطالب محمد، اندحمنَ علماً، فاضرب أيها الموت، إنك لن تغتال فينا سوى عجرفة الحياة!
اضرب أيها الموت فذكرُ أبي لايغيبه فناء، وليس لوقاحةِ النسيان أن تبدده.
اضرب أيها الموت بأمرِ ربك، تلقنا على ماقدر الرحمن الواحد الأحد الدائم الذي لا يزول، صابرين محتسبين.

أبي، إن وقع الرحيل هائل، وإن الأسباب بعدك تافهة وإن كل شيطانٍ بائسٍ وُكل بي يهمس:
لَيتَ السَماءَ عَلى مَن تَحتَها وَقَعَت... وَحالَتِ الأَرضُ فَاِنجابَت بِمَن فيها
ولكنني لا أستدعي فيكَ قول الجاهلية الأولى بل أرثيك بما نُدب به أبوكَ من الشهداء:
ذهب امرئٌ خطبُ النوائبِ لم يكنْ...بسواه مدفوعاً وكانَ وِقاها
حياك ربك ما الخلودُ بمعجزٍ... لو كنتَ تبقى في الحياةِ مداها
لبقيتَ تخطُرُ في المنابرِ صادِعاً... نهجاً يعيدْ إلى النفوسِ هُداها
ولكنتَ للدنيا سماءَ منافعٍ... تسقي مرابعَ جفَّ منكَ ثراها

قضى الله أن نفجع بكَ، أن نخسر من أعمارنا في وجع رحيلك وأن يهزمنا الموت فيك، وهذه ولله أعظم هزائمنا لا اعتراض على فعله تعالى.
لولا أن الموت حقيرٌ لا يعرف كيف لا يوجع، مابكيناك.
فَتى عَاشَ يَبْني المَجْدَ تِسعينَ حُجّْةً... وكانَ إلى الخيراتِ والمَجدِ يَرتَقي! 
عشتَ أفضل الحياوات يا أبي. كبرتُ شاباً تقياً تتبع العلم وآثاره، ثم رحلت عن أهلك تنشره في كل مكان، أفنيتَ عمراً تعلم المعدم والفقير وصاحب الحاجة... 
أنجبتَ خيرَ الأولاد وبثثت القرآن في صدورهم، أحسنتَ تعليمهم وتربيتهم وتركتهم من بعدك خيار قومهم. رأيت أحفادك وأحطتهم بدفئك وجمال روحك. عُرفت في الأرض بخير مايعرف به عابد، ثم رحلتَ وقوراً محاطاً بأهلك وأحبابك.

أبي أنا أيها الملؤا، تاريخُ وطن، وحكايةُ حبٍ سنرويها لأولادنا من بعده، وإنا لنرجو أن تشملهم بركته ويصلهم من نوره.
حين فقد أبي والده باكراً وتركه لأمه، الكريمة متُ منت الطالب اعلي، وحيدةً في أربعينيات القرن الماضي، كان يعرف وهو إبن الأكرمين أننا أمةٌ تُقدر نساءها العلمَ وتتغرب لأجله، وأن أبي سيرث إسمه وعلمه.
كانت رحمها الله ترتحل به مع ما من الله عليها به من رزقٍ، أينما حل شيخه يومها محمد يبرا ولد بيه رحمه الله، وإنا نذكره، ونحبه ونجله لأن أبانا كان يذكره، ويحبه ويجله.
تترك ديارها، أهلها ونخيلها، لا تفارق الرجل الذي ارتاحت لطريقته في تعليم إبنها.
استثنائيةُ أبي أختار الله أن يكتبها بيد إمرأةٍ فردوسية، فمثله لا تكتب له العظمة في عمومة دون خؤولة.
في خريف عام 1957، ثلاث سنوات قبل الاستقلال هذه البلاد، خرج أبي خلف شيخه في واحدةٍ من أحب ذكرياته إلى قلبه. استقبل القبلةِ، خلف كتف شيخه وحبيبه، ثم بدأ تلاوته، حتى إذا ما أكمل حزبه الخامس، ووقف على آخر آياته: "وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ ٱلْمَـَٔابِ" 
أشار عليه أن يكف، ثم دعا له: رزقني الله وإياك حسن المآب. 

فخورٌ أبي بهذه اللحظة ليس لأن إجازته كُتبت يومها فقط، بل ولأن شيخه دعا له دعوةً صدقَ دائماً أنها ستعني حسن خاتمته، ثم كان له ما تمنى. 
في عقده الثامن، وقد وهن الجسم، وضعفت الذاكرة، تمنع عن الموت بإرادة ربه حتى أكمل ختمته الأخيرة. أكثرُ من خمسٍ وستين سنة قضاها أبي خادماً لكتاب الله دون أن يفرط به لحظةً.
على فراش الغياب، ساعات قليلة قبل أن تصعد روحه الطاهرة إلى مولاها، كان لا يزال يتلو آيات ربه كما حفظها صبياً.
لم يستطع أن يآتِ أحد المدود كما يجب، فسكتَ يسترد نفسه. ظنوه نسي الآية معاذ الله، فإذا به يعيدها بعد لحظةٍ واحدة، كاملةً متقنةً، كما أُنزلت.
ختم أبي القرآن مرةً أخيرة، ثم شهد بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، ثم أسلم الروح عند الرابعة، ظهر يوم الجمعة.
وذاك - وديني- لحسنُ مآب.

كان أبي أعلم أهل أرضه بكتاب ربه وفيه يقولون:
"اندحمنَ أعلمنا بالقرآن علماً ورسماً وضبطاً ومقرإ، ومن الذين ترد فيهم:
وجاءَ في الحديثِ أنَّ المَهَرَهْ.. ف علْمِه مَعَ الكرامِ البَرَرهْ."
يشرحُ محبٌ: المهرة في القرآن الكريم يحشرون مع سفراء الله من الملائكة.
أبي كان نفحةً من ريح الجنة، ذكرى صلاحٍ آفل، وبقيةُ بركة مصطفاة.

إن الرحيل لمثلك يا أبي هو نهاية قصةٍ استثنائية فولله لولا لؤم الإنسان ما كان استرجاع الله لأمانته موجعاً هكذا.. فوَ عظمةِ ستين حزبٍ طاهرة بصدرك الشريف، ما أثخنني خوفٌ عليك. إنما أبكي وحدتي دونك، أبكي غيابك الطويل.. أبكي شوقاً للقاءٍ بتُ أتوسله إلى الله منذ الآن. ثم أبكي على خيطٍ من الذكريات أدري أنا بأنه انقطع.

في آخر مكالماتك معي، ودعتني: فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ.
وثقتُ بدعاءك هذا دائماً.. وثقتُ أن الله سيعيدني إليك كي تقر عينك وإنكَ من عباد الله لو أقسمتَ على الله لأبرك.
وأثق اليوم به، أثق أنه سيشفع لي، سيأخذ بيدي إليكِ ويكتب لقاءنا الذي دعوتَ به، في عالمٍ لا موت فيه ولا غياب.

مضى طاهر الجثمانِ والنفسِ والكرى ... وسهد المنى والجيب والذيل والردن. 

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

بقلم الكاتبة حفيدة الفقيد /النهى منت الطالب