نهاية عطلة أسبوع في تكانت /سعيد ولد حبيب

ثلاثاء, 2025-04-08 13:39

صمت  الأضرحة وصخب عند السفوح  بوادي "غبو"أسطورة الخصب والنماء،المهددة بالجفاف..

تهجع تكانت - ومعناها الغابة- بين سلسلة هضاب ورمال ووديان في قلب الصحراء الموريتانية .
يسلك صفير الرياح دروبا وفجاجا  فيغني ؛كلما لامس حجرا أو مدرا ..
تتداعى الحكايات بين  أروقة صماء لتروي ظمأ الضيف المتعطش لنتف من التاريخ والأحداث التى جرت في المغارات والكهوف 

.. تتدحرج رباعيات الدفع متهادية فوق كثبان تحسبها كذلك؛ قبل أن تكتشف أن بعضها تخفي كدى وجبالا  في  كبد التل فتضع المحرك أمام اختبارات صعبة ..
فالطبيعة هنا لا تبوح بكل أسرارها بسهولة ..
 تغتسل العيون  بل تكتحل بمناظر أخاذة يختلط فيها البهاء والرهبة والجلال؛ بمشاهد الفرجة البصرية والنفسية؛  فتبدو الرحلة أقرب إلى  مغامرة جريئة ..تستدرج الزوار فلا يقوى بعضهم على تخيل مآلات الذهول؛ فيسقط في واد سحيق بعد أن يصل علوا لا يتسنى له العودة منه ..فلا قشة للنجاة بعد الصعود الى القمة ..لذا قضى سائح ألماني قرب نبيكة قبل اسابيع ..

تمثل "انبيكة" وتامورت النعاج عموما إحدى الوجهات السياحية وقبلة للباحثين. 

الذين يقتنصون الفرصة لزيارة  بعض الأمكنة .. بحثا عن ومضات من  الأزمنة.. ففي الأسفار فوائد جمة .. من بينها أن تتعلم وأن تصل .. 
 
  جوار ... وحوار 

تشبه تكانت ..آدرار ..وتشبه تجكجة والمجرية والتامورت "شنقيط ووادان"وتيشيت.. ليس في ملمح التضاريس وشكل الطبيعة وتناسق الألوان ووحدة الحياة؛ والمصير فحسب ولا في شكل الرويات والحكايات الموثقة والشفهية؛ نقلا وتداولا أيضا وإنما في اشتراكية العلوم و مشاعية المعارف وتلاقي  التجارب وتداخل المدارس والمرجعيات ;وتنافسية الكتب والمخطوطات وتزاحم عقول الرجال والرجال ..
قرية لمكيطع شمال غرب انبيكه محطة توقظ مشاعر الأخوة وعرى الصلة وتمنح اللقاءات حرارة تفوق حرارة شمس الظهيرة في مستهل أبريل نيسان ..
وفي كل ركن من هذه التضاريس ما يستحق وقفات وتأملات .. على مشارف المقيطع حيث مررنا بقوم كرام ..ضريح العلامة المختار،ولد بونه ..هذا القبر  يتنفس،عبق علم وزهد ... عاش بن بونه مائة وأربعين عاما; ورحل إثر سقوطه من على  ظهر جمل  في منطقة تدعى "تباريت "وعندما سأل عن اسم الموضع قال لهم "تيب علي"
  وخاض العالم مناظرات مع كثير من علماء وشيوخ عصره طالت  أحكاما واجتهادات فقهية ومجالات خوض صوفية 

الخرافة ..والكرامة 

مثل هذه اللحظات تعتبر  مدرسة متنقلة مؤقتة تثري الطريق باستحضار المآثر من الأقوال والأفعال; وتحي عادة البحث والتقصي وتجلي المعاني والمفاهيم فتعرض مختلف الروايات الشفوية والموثقة; وتعرضها للقراءة والنقاش والاستنتاج فينقسم الناس فسطاطين وفي ذلك الاختلاف من النعم الكثير .
الجدل بخصوص الكرامات قديم جديد;ومع تطور أساليب الحياة ووسائل المقارنة وأدوات التجربة تمددت مساحة  التحفظ على بعض "المرويات "..فكثير من استخدام العقل في مثل تلك المواقف ومحاولات التجريد تقدم فهما آخر ..بالمقابل يذهب آخرون إلى الاعتقاد بأن بعض العلماء والصلحاء يتمتعون بمقامات لا ينالها إلا هم ولكل من الفريقين دفاعه وحججه وقد كانت تكانت مسرحا لسجالات تاريخية في هذا المقام تماما كما كانت مسرحا لحروب وإغارات خلدتها الحكايات الشعبية وتناقلتها بوجوه مختلفة;  بيد أن السجال بين العلامة المختار بن بونه والشيخ سيدي المختار الكنتي في علم الظاهر والباطن  كان في حدود الأدلة العقلية والنقلية ومسائل الذوق والفهم والاجتهاد ..وقد ذاع صيت تلك الاختلافات في التأويل وكان لبعض علماء وصلحاء،أركيبة ولعصابة  آراء،متوازنة تدعو إلى التهدئة وتروم عدم الانجرار وراء طرف ضد آخر ؛ومن ذلك بعض أبيات كتبها العلامة عبد الله ولد لمرابط سيدي محمود الملقب النهاه في تلك الفترة يقول فيها 
إن بن بونه له سر وأنوار 
والشيخ سيد  المختار،مختار 
أف فأف لمن أمسى حليف هوى 
له على أحد الشيخين إنكار
وهنا خرج النهاه من مساحة التصنيف حفاظا على مكانته بين العلمين . 
والحقيقة أن المنطقة شهدت ازدهارا غير مسبوق للعلم والشريعة؛وانتقل بعض العلماء إلى وادان فأخذوا منها  ومنهم العلامة ولد رازكه الذي عثر على أقدم أبيات له في مكتبات تيمبكتو قادمة من رفوف وادان  وتتلمذ العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم على المختار ابن بونه فيما تتلمذ علماء من وادان على العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم؛ وكان السالك ولد الإمام الواداني من أوائل الشيوخ الذين جلبوا الورد التجاني أخذا مباشرة من سيدي احمد التجاني ويقال بأن منهج الإمام كان قائما على روح طريقة الشيخ سيدي احمد وما أوصى به في جواهر المعاني وفي،وادان كتب اول مخطوط في القطر بيد العالم "أحمد لوتيد "وتوجد منه نسخة عند أسرة أهل بالأعمش الشنقيطية  ..

"غبو" 
إذاكانت وادان تعني واد علم وواد تمر فإن واد غبو يحوي ما حوته وادان وما جادت به جبال تكانت من مياه تتدفق في كل موسم نحو السفوح؛ قبل أن تستقر في باطن غبو ..لقد بات الواد رمزا للخصب والنماء،.. ففيه تتم زراعة الحبوب خاصة القمح والشعير ومن بركاته يخرج "توف الحنة" وهو عشبة للدواب تستعمل عند حلول الصيف غذاء شهيا وعلفا طبيعيا .. وفيه "تظب" نوع من البطاطس المحلية التى تنبت تلقائيا كلما انحسرت مياه الفيضان عن سطح غبو ..وهذه البطاطا تتمتع بنكهة خاص يأكلها الناس أيضا وتطهى بطريقة تقليدية فتؤكل طعاما ودواء .. 

الصيد في غبو 

من البديهي أن تعذر السكان عندما يثنون على "غبو" فهو أحد الأساطير بالنسبة لهم وهو  أيضا موطن انواع من الأسماك التى تنضاف للموائد في تجانت 
..هنا يصطاد الأجانب في غبو انواعا جيدة من الأسماك التى تعيش في المياه الباردة.."السلمون" غذاء،ودواء أيضا لكن صيده في التامورت مازال حكرا على بعض افراد الجالية المالية فقد  ضربوا خيامهم وأخببتهم عند سفح الجبل؛ وأرسلوا مراكبهم وشراكهم لتعود بالأسماك .. يستخدم الصيادون طرقا تقليدية لتجفيف الأسماك قبل شحنها إلى مالي وبعض الدول الافريقية .
ماذا لو اهتمت الدولة بهذه الثروة في تكانت فقررت إقامة مشاريع لتطوير هذا الموقع وتكوين شباب القرى هنا على مهن الصيد وتزويدهم بالمعدات .. غبو أيضا موقع سياحي جذاب بمناخه المعتدل ومشاهد الخضرة وحنو الجبال عليه حنو المرضعات على الفطيم؛ لماذا لا تقام منشآت سياحية ومواسم ثقافية وعلمية تستغل هذه الكنوز وتنفض الغبار عن كنوز معرفية آخرى؛ في المنطقة التى تحتاج أيضا مركزا صحيا يسهم في التقليل من وفيات الأمهات عند الولادة؛ حيث تسجل أرقام قياسية لعدم توفر الخدمات الصحية الأساسية..ناهيك عن انتشار الأمراض ..بسبب الأخرى 
لماذا لا تشق الدولة طريقا يذلل صعوبات الوصول إلى المنطقة خاصة في موسم الأمطار ولو طريقا غير مسفلت يمكنه من المرور إلى هذه الجنان المعزولة في ولاية تكانت 
إن قرى لمكيطع في تامورت النعاج تمتلك  مقومات اقتصادية وتاريخية  وقيما تراثية  وكرما حاتميا أصيلا  يؤهلها كي تكون قطبا تنمويا كبيرا في المنطقة .