كفانا " ربيعا " ... الدكتور / إسلكو احمد إزيدبيه وزير سابق

خميس, 2025-06-12 21:57

يشهد حاليا الشارع الغربي صحوة ضمير منقطعة النظير تنديدا بالإبادة الجماعية في قطاع غزة واستنكارا لغطرسة وعنف  المستوطنين في الضفة الغربية، وهي فرصة هنا لتوجيه التحية إلى النائب في البرلمان الأوروبي، "ريما حسن" التي كتبت "Free Palestine" على جدار زنزانتها الانفرادية الإسرائيلية…

ومن ما لاشك فيه أن شجاعة وتضحية المقاومين الفلسطينيين، بمختلف فصائلهم، وتهور قوات الاحتلال الصهيونية وحلفائها وتجاوزهم كل الخطوط الحمراء عسكريا وإنسانيا  وأخلاقيا في فلسطين، ومشروع "الريفييرا" السخيف والتداعيات السلبية للرسوم الجمركية المرتجلة على "سلة ربة البيت" غربا، ساهمت، من بين عوامل أخرى،  في فضح الغش الفكري والسياسي الذي يطبع تعامل جل النخب الحاكمة الغربية مع القضية الفلسطينية بالذات. 

 

١- نبذة تاريخية

على الرغم من أن "الحل النهائي" ضد اليهود والغجر تم تصوره وإنضاجه وتنفيذه من طرف جهات سياسية غربية معروفة وعلى الرغم من أن علاقة الحكام العرب والمسلمين الطويلة برعاياهم اليهود لم تشهد يوما أحداثا مأساوية مثل تلك التي حصلت في أوروبا القرن الماضي، بل طبعها احترام "أهل الكتاب" وتسامح ثقافي كبير، فقد قررت بعض النخب الأوروبية (العلمانية في الغالب !)، أن يدفع العالم العربي بشكل عام، والفلسطينيون بشكل خاص، فاتورة "المحرقة" التي راح ضحيتها اليهود الأوروبيون، احتلالا وتقتيلا وتشريدا في إطار المد الاستعماري ومسوغاته الواهية. فالصهيونية، طبقا لأفكار مؤسسها الصحفي تيودور هرتزل، نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، انطلقت من فكرة أساسية مفادها استحالة التغلب على معاداة السامية في أوروبا وضرورة تأسيس "دولة لليهود" خارج هذه القارة، في إحدى المستعمرات ؛ ومن أجل فهم الخلفية الأوروبية-الاستعمارية لهرتزل، هذه عينة من أفكاره : "بالنسبة لأوروبا، سنشكل هناك جزءًا من السد ضد آسيا، سنكون الحارس المتقدم للحضارة ضد الهمجية"…

ومن المعروف تاريخيا، أن أولى مبادرات هرتزل في هذا المضمار تعلقت ب-"المخطط الأوغندي" الذي حظي بموافقة وزير المستعمرات البريطاني "تشامبرلين"، سنة 1903، قبل أن تحول ضغوط قوية لاحقة (من الملاك البريطانيين الجدد للأراضي الفلاحية الأوغندية لزراعة الشاي) دون تنفيذه ميدانيا. لم يذكر التاريخ أن جالية يهودية واحدة  في العالم العربي -الإسلامي عانت وقتها أو قبل ذلك من الاضطهاد العرقي أو الديني، بل ضمت بالدوام دواوين أمراء الأندلس والأباطرة العثمانيين، على سبيل المثال، وزراء ومستشارين مسيحيين ويهود مشهورين، وظل المثقفون والكتاب المسيحيون واليهود في الفضاء العربي-الإسلامي يتقنون اللغة العربية ويؤلفون بها لفترة طويلة، ولعل ذلك عائد إلى كونها لغة كالعلم وقتها ولغة سامية.

بعد استحالة "المخطط الأوغندي"، تم التفكير في "الحل الأرجنتيني"، قبل أن تتفتق قريحة "بلفور" بوعده المشؤوم لروتشيلد، في خضم الحرب العالمية الأولى (1917) ؛ فمن المهم أن نستحضر الخيارين الأوغندي والأرجنتيني، كبرهان على أن قصة "الأرض الموعودة" لاحقة على المشروع الصهيوني الأصلي. ومن المهم كذلك استحضار الظرف الزمني (الحرب العالمية الأولى) الذي ظل يطبع ما عاناه الشعب الفلسطيني من تنكيل واضطهاد وتطهير عرقي، على يد العصابتين الإرهابيتين (حسب القانون البريطاني آنذاك) "الإرجون" و"هاغاناه"، منظمتان شكلتا لاحقا نواة الجيش الإسرائيلي... 

أما بخصوص الشعار المبتذل "شعب بلا أرض، أرض بلا شعب"، فهذه فقرة من تقرير قدمه ممثل الحكومة البريطانية ل-"عصبة الأمم"، في 31 دجنبر 1936 : 

« في تاريخ 30 يونيو 1936، يتألف سكان فلسطين من :

⁃ 106474 مسيحيا

⁃ 781789 مسلما

⁃ 370483 يهوديا

هذا دون احتساب البدو الرحل (66583) والقوات المسلحة لجلالة الملكة…".

فمن المهم  استحضار "البدايات"، تصحيحا لسردية "وهمية" رائجة رقميا، لا تقيم وزنا للحقائق أو الوقائع أو الوثائق…

يؤكد الأستاذ الجامعي الأمريكي "جيفري ساكس" أن بريطانيا وعدت بفلسطين لثلاث جهات مختلفة في نفس الوقت تقريبا : الوعد الأول كان لصالح الشريف الحسين(1916)، استدرارا لدعمه الحربي في طرد العثمانيين من المنطقة، مقابل "مملكة عربية" جامعة ؛ أما الوعد الثاني، فلصالح فرنسا ( سايكس-بيكو، 1916)؛ أما الوعد الثالث، فلصالح "روتشيلد" (وعد بلفور، 1917)، استدرارا للمال خلال الحرب العالمية الأولى ؛ ويضيف الباحث اللامع أن كل هذه الوعود المتزامنة تعلقت بأرضٍ (فلسطين) ليست ملكا أصلا لبريطانيا ! ويؤكد "جيفري ساكس" أن إسرائيل ما كانت لتنتصر في أي من حروبها في المنطقة لولا الدعم الأمريكي.

بالعودة إلى نص "دولة لليهود" لهيرتزل، نلاحظ أن الصهيونية نشأت كردة فعل، علمانية، استعمارية، شأنها في ذلك شأن جل الايدولوجيات الرائجة وقتها. فالطلاء الديني للصهيونية ظهر لاحقا إثر هجرة مجموعات يهودية وازنة من أوروبا الشرقية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى فلسطين، تحت ضغط الدعاية "الترغيبية" وتزامنا مع اندلاع الحروب في المنطقة. 

 

٢- "الربيع العربي" 

       يمكن تعريف "الربيع العربي" بأنه حركة شعبية تمردية ضد حاكم عربي و/أو مسلم، تخطط لها إيديولوجيا جهة معادية للإسلام، غربية في الغالب، وتوفر السلاح لمنفذيها العرب-المسلمين وتمولهم وترعاهم سياسيا وإعلاميا مرحليا، تحقيقا لمآرب تحكمية في الثروة والسيادة ؛ بعد تحقيق الأهداف، كإسقاط نظام  وطني عربي مثلا ("سلطان غشوم خير من فتنة تدوم") ، تكتشف الجهة المغرر بها أنها لم تربح شيئا يذكر بل خسرت كل شيء، عندها يبدأ الندم، فيصبح لديها خياران لا ثالث لهما : إما الاصطدام رأسا بالمغرر الأجنبي المتفوق عسكريا  أو القبول بدور العميل المكشوف لصالحه. 

وفي الغالب،  يختتم "الربيع العربي" بكتب ومذكرات "تفصيلية" رائجة ل-"أبطاله" الغربيين، تتحول لاحقا إلى أفلام هوليوودية تحصد الجوائز الأولى في "كان" و"نيويورك"… فمن حسنات الساسة الغربيين أنهم يحررون، في الغالب، مذكراتهم في أدق نفاصيلها -خاصة تلك المتعلقة بالتغرير بالشريك العربي-…

يمكن اعتبار ما أطلق علية  الغرب اسم "الثورة العربية" على العثمانيين (1916) « ربيعا عربيا" أولا، أورد فصوله  "لورنس العرب" في كتابه "أعمدة الحكمة السبع"… ؛ أما "الربيع العربي" الثاني، فيتعلق بالحرب الجهادية في أفغانستان المدعومة غربا ضد حكام هذا البلد وحلفائهم "السوفييت" والتي راح ضحيتها الآلاف من خيرة الشباب العربي وتم لاحقا تجنيد البعض منهم استخباراتيا لتنكشف اللعبة، كما اتضح مؤخرا غير بعيد منا ؛ أما "الربيع الثالث"، فارتدى لبوس البحث عن "أسلحة الدمار  الشامل" و"تأسيس الديمقراطية" في العراق، ونتجت عنه مأساة بشرية  وتأجيج ودسترة  للطائفية، ثم ردة فعل عنيفة ويائسة تجاه المحتل الأجنبي ؛  أما "الربيع العربي" الرابع، فهو "الربيع العربي" الأكبر (2011…) والذي راحت ضحيته أنظمة وطنية عرفت بصمودها دفاعا عن الحق العربي (والإفريقي)، فاستشرت القبلية والفئوية واستنزفت المقدرات البشرية والمادية. لقد خول هذا "الربيع العربي"  الفيلسوف الفرنسي بيرنار هانري ليفي، أحد المنظرين لهذه الانتكاسة العربية، تحرير كتاب رائج : "الحرب ليس حبا فيها"… 

فالفضاء الثقافي الغربي يتلقف سرديات مغامريه الفعلية أوالخيالية في المنطقة العربية، لأسباب غامضة نفسيا… ؛ كما أن دخول "التاريخ" يقتضي، بالنسبة لبعض القادة الغربيين، خوض حرب ضد العرب والمسلمين…

        أما اليوم، وبعد أن سطرت المقاومة الفلسطينية،  بأجساد أبطالها العزل، صفحة تاريخية ضد أكبر تحالف عسكري في التاريخ، ها هي الشعوب الغربية تتظاهر يوميا  بالملايين تنديدا بحرب الإبادة في غزة التي تشارك فيها جل حكوماتها، محاولة فرض مراجعات سياسية على هذه الحكومات إنصافا للفلسطينيين ؛ فمن السفه السياسي التفريط في ورقة الضغط تلك، عبر مسيرات "ربيعية" يسهل تفخيخها استخباراتيا والتحكم في شعاراتها وزعمائها واستغلال كل ذلك كفزاعة دعائية-إعلامية لوقف موجة التضامن الشعبي غربا مع الشعب الفلسطيني وقضيته المصيرية. فنكبة فلسطين دبرتها نخب غربية ولايزال جل هذه النخب يتردد اليوم في الاعتراف بدولة فلسطين، رغم توصيات من البرلمانات المعنية ؛ فمن المهم أن نقتنع بأن دعم الرأي العام الغربي يشكل رافعة ثمينة للضغط على هذه النخب المتصهينة بغية تعديل سياساتها حيال القضية الفلسطينية. ومن المهم كذلك تحاشي ما حصل في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا…، مسيرات فوضوية، سهلة التوجيه "عن بعد" (عبر وسائل التواصل الاجتماعي)،  قد تحرج أمنيا هذه الدولة الشقيقة أو تلك، في ظرف بالغ التعقيد بالنسبة لكل دول المنطقة. 

       فكفانا "ربيعا" يرحمكم الله، ولنفكر سوية في آليات مبتكرة للتعبير عن تضامننا مع أشقائنا في فلسطين، بشكل أكثر فعالية ونجاعة وعقلانية، لايؤثر سلبا على الديناميكية الشعبية الأوروبية الحالية، وغير قابل للتوظيف دعائيا ضد فلسطين والمنطقة…

 

إسلك أحمد إزيد بيه

رئيس جامعة سابق