في سنوات ماضية و في خضم تسارع وتيرة الأحداث الوطنية و الدولية و ما صاحبها من انتشار واسع لوسائل إعلام و اتصال ملأت الدنيا و شغلت الناس، و مع تزايد الانشغال بأمور الحياة اليومية في العاصمة، كان كثيرا ما يراودني هاجس الخوف من الجهل بأدنى ما يُفترض معرفته من مُرتاد المجالس و المحافل.
فكنت كلما راودني ذلك الهاجس اصطحبت أحد النصوص التعليمية المحظرية و جعلتُ و جهتي منزل أستاذنا العلامة حمدن ولْ التاهْ أطال الله بقاءه ملتمسا بحضرته ملاذا عن تيار الأحداث و المشاغل الجارف.
و قبل أيام - و أنا بباريس - أصبت هدأة من الدراسة و التدريب جال فيها بذهني دون سبب بعض من المواقف التي بقيت في الذاكرة من تلك المجالس العطرة، فأتتني فكرة كتابتها و جعلها بين يدي الجمهور.
أتذكر أنه قال لي يوما وأنا أشرع في دراسة مختصر الشيخ خليل :’’ أنصحك أن تمر على نص المختصر سريعا دون اعتناء أول الأمر بتحقيقه و تحريره تفاديا للملل و التوقف في وسط الطريق ، فإذا فعلتَ ذلك حصلت عندك ألفة مع جميع فصوله و أبوابه و تكونت لديك جُرأة على بحث أي موضع منه احتجت له و تحصلت عندك مفاتيح البحث فيه ’’. وقد أدركت فيما بعد رجحان و نجاعة ما أرشدني إليه.
و حدثني هنا بما قاله العلامة : محمذن بن محنض بابَ بن اعبيدْ حين نصح من حوله :’’ إياكم و حشو أذهان التلاميذ عند شرح النصوص، فإن كان التلميذ ذا وله بالعلم أكمل مادة البحث بنفسه، و إن كان غير ذلك وفرتُم عليه و على أنفسكم عناء التدريس’’.
و قال لى : ’’ إنني أرى في هذا الزمن الذي كثرت فيه المشاغل و ضعفت فيه الهمم أن يقوم الشاب بعد دراسة المختصر بالتخصص في باب يتقنه تاركا التخصص في باقي أبوابه لغيره على المنهج العصري’’.
و قلتُ له ذات يوم : إني لاحظت أن الشيخ خليل كثيرًا ما يأتي بمسائل في غير مظانها، كتعرضه لمسائل من الضمان في باب الذكاة، و تعرضه لبعض أحكام السماع في بابي النكاح و الشهادات، و كبسطه لأحكام الجار عند الكلام على الشركة ... فقال لي : "هذا ما حدا ببعضهم إلى التأليف فيما يعرف بفقه الشوارد، و لكن لا بدَّ من القيام بعمل شامل في هذا المجال يكون دليلا للباحث عن الفروع في نص المختصر و شراحه".
و في شأن المُختصر نبهني أن هناك جوانب فقهية مُهمة أغفلها الشيخ خليل، في حين بسطها الشيخ محمد بن أبى زيد القيرواني في آخر رسالته باكورة المذهب عند كلامه على ما يُعرف بالآداب.
و عندما رجعت إلى الآداب في الرسالة بشرح أبي الحسن المنوفي و حاشية العدوي عليه وجدتها بحرًا زاخرا من الأحكام المعيشة المتنوعة التي لا غني للمسلم في حياته اليومية عن معرفتها كحكم صبغ الشعر و أحكام قتل الحشرات و ما يقال في تقبيل اليد و العناق و النمص و الوشم و اللباس و التعالج و الرُّقى ...إلى غيرها مما لا يتسع المقام لاستيعابه.
و كنتُ مرةً أدرس عليه من دالية العلامة محمدفال بن محمذن ’’ ببَّها" التي ضمنها الألغاز الفقهية لابن فرحون المدني و التي صدرها بمرثية لابن عمته العلامة محمذن بن عمر بن الأديبْ الفاضلي:
ألا حَيِّ دورًا بالأبُـيْـتر مِن دعدِ
عفتها روايا الدلوِ بعدكَ و السَّعدِ
و بالوهدِ وهدِ البيرِ دورًا مُحيلةً
لدى حيثُ قلَّ الطلحُ مِنْ ذلكَ الوهدِ
فأصبحْنَ لا يُعرفْنَ إلا توهُمًا
و صرفُ الليالي عهدهُ أكذبُ العَهدِ
تحلَّتْ بِميٍّ بُرهةً ثمَّ عُطِّلتْ
فما ثم َّ مِنْ مَيٍّ و ما ثمَّ من دعدِ
كما قدْ تحلَّتْ بالأديبِ مُحمذن
سليل الأديبِ ذي المآثر و المجدِ
فلما و صلنا في القصيدة إلى قول لمرابط: ’’ببَّها’’:
و منْ يكُ ما استثناهُ ساوى الذي مضَى
فصحَّتْ لهُ ثُنياهُ عند ذوي القصدِ
بين لي الشيخُ أن الملغز به في البيت هو الاستثناء المُستغرقُ في الوصية، فإنهُ يؤثر فيها و يبطلها خلافا للقاعدة من أن الاستثناء المستغرق لا يفيد شيئا، فمن قال لزوجته "طلقتك ثلاثا إلا ثلاثا" حكم عليه بالثلاث ولمْ يفدهُ استثناؤه المُستغرقُ، و كذلك لا أثر له في الهبة كمن قال أعطيتك ألفا إلا ألفا حُكم عليه بالألف، هذا بعكس الوصية فمن استغرق فيها الاستثناء بطلت كقول الموصي : أوصيتُ لفلان بألف إلا ألفا.
عندها سألته ما سبب تأثيره في الوصية دون الطلاق و الهبة ؟ فأطرق قليلا ثم قال لي : ألا ترى أن الوصية يجوز للمُوصي الرجوع عنها بعكس الطلاق و الهبة ، فربما جعلوا الاستثناء المُستغرقَ في باب الوصية من باب الرجوع عنها، فاستحسنتُ التعليل و استسغـتُـه بحيث إني لم أرجع للكتب للوقوف على تأويل منصوص للفرق، مع أن الشيخ أجابني على وجه التنظير من غير قطع.
و كنتُ يومًا أقرأ عليه من نظم : مراقي السعود في الأصول للعلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي و تحديدا في مبحث مفهوم الموافقة، و بعدما قال لي إن مفهوم الموافقة نوعان : فحوى خطاب و لحن خطاب، و إن فحوى الخطاب هو أن يكون الحُكم المسكوت عنه من باب أحري فقوله تعالى : " و لا تقُلْ لهما أُفٍّ و لا تنهرهما ’’ يُفهم منه بالأحروية النهيُ عن ضرب الوالدين و إن لم يرد النهي عن الضرب صريحا في النص، وبعد أن بين لي أن لحن الخطابَ هو أن يكون الحكم المسكوت عنهُ مساويا للحكم المنطوق، سألته و ما مثال الحكم المسكوت عنه المُساوي لقول : ’’ أُفٍّ " للوالدين، فأجابني سريعا بالحسانية : مثالهُ : "التِشڭامْ".
و عند تناولنا لمبحث مسالك العلة في باب القياس من الأصول أتذكر أنه مثل لي مسلك السبر تمثيلا جعل معناه عندي حاضرًا من غير حاجة لمراجعته. لقد قال لي الشيخ : إن السبر هو ما يُعرف عنذنا محليًا ب التِشڭاطْ و هو تهذيبُ الشجرة بقطع ما طال و أخذ ينمو في غير نظام من أغصانها.
فالسبر في القياس أن يقوم الأصولي بحصر أوصاف الأصل المَقيس عليه ثم يقوم بعد ذلك بإبطال ما منها لا يصح أي يكون علة بطريق من طرق الإبطال، فما بقي من الأوصاف بعد عملية الإقصاء هذه ثبت علة للحكم، كتعليلهم حرمة الربا في القمح بالاقتيات و الادخار بعد أن قاموا بإقصاء كل ما لم ينهضْ علة للتحريم من أوصافه الأخرى كالمالية و الطعمية و غلبة العيش ...الخ
و سألته يومًا : هل من تخفيف في تحريم المالكية بيع طعام المُعاوضة قبل قبضه ؟ فأمرني أن آخذ جزءًا من كتاب أظنه المُغني لابن قدامة و أن أفتحه عند صفحة حدد لي رقمها، فإذا بالكتاب قد استعرض بتفصيل خلاف العلماء في تكييف القبض : فأبو حنيفة يرى أن القبض يحصلُ بالتخليةِ أو ما يُعرف بالإقباض أي أن يُخلَّى بين المثشتري و الطعام المَبيع بحيث يمكنه التصرف فيه بلا مانع و لو من غير قبض حسي، أما الإمام أحمد بن حنبل فقد سلك مسلكا و سطا بين مالك و أبي حنيفة فهو – وإن كان لا يشترط القبض الحسي – إلا أنه يشترط تمييز الطعام المبيع بحيث يمكن قول: هذا ما اشتراه فلان.
و لا يخفي ما في هذا من التوسيع في بيع وثائق الطعام أو ما يعرف ب " البَوهات’’ و عرضت عليه مرة نظم شوارد الفقه للعلامة امحمدْ ولْ أحمد يورَ المعروف ب"فرحة الصبي و تحفة الغبي" فلما و صلنا إلى قوله في باب الهبة متكلمًا على حكم ما وُهب للصبي:
و ما وهبتَ لصبيٍّ ذِي أبِ
فلِأبِ الصَّبِيِّ ليسَ للصَّبِي
قال لي: اعلم أن كلام امحمدْ هنا في الغالب، أما إذا كان ما وُهبَ للصبيِّ بسبب مكانة أمه فإن الأم تختص بالشيء الموهوب دون الأب.
و أتيته يومًا لأشرع في قراءة نظم قواعد الزقاق المعروف ب"المنهج’’ فأحسست منه تحمسًا لتدريس هذا الفن الراقي من العلوم الإسلامية، و قال لي : إن عدم اهتمام أوساطنا المحظرية بما فيه الكفاية بعلم القواعد خلق قطيعة بين طائفتين من آهل العلم تطرفت كل واحدة منهما في جهة، فطائفة اهتمت بالأصول الكلية حتى ادعت الاجتهاد، و طائفة تعلقت بالفروع فجمدت على النصوص، و في رأيي أن علم القواعد هو الحلقة المفقودة لسد الفراغ بين الأصول الكلية و الفروع.
و لعل هذا ما أشار له الشيخ في مستهل نظمه البديع في أحكام مستجدات العصر:
فبعضهمْ مال للانعزالِ
تورُعًا مِنْ هذه الأحوالِ
و بعضُهمْ مال للاجتهادِ
مع انقطاعهِ بكُلِّ وادِ
فضاعتِ الأحكامُ بينَ ذينِ
و ظهرَ الجهلُ على وجْهينِ
و عندما تقدم بنا الدرس في منهج الزقاق و وصلنا للقاعدة الخلافية: هل تتعلق الذمة بالعين ؟ بين لي أن من تطبيقات القاعدة : شخصٌ يُتعامل معهُ اتكالا على حانوت له أو حرث ثم شاءت الأقدار ضياع تجارته أو حرثه هل يتعلق ما يُطالب به من الدين بذمته فيتبعه به صاحب الدين، أم أن الدين يبطل لتعلقه بتلك العين الضائعة.
ثم قال لي لقد كان في الخلاف المندرج تحت هذه القاعدة مخرجٌ لبعض الموريتانيين العائدين من السنغال سنة 1989 و الذين ضاعت تجارتهم و هُمْ يُطالبون بديون في تلك البلاد. و بعدها كنت أتساءل : هل يمكن أن يكون في هذه القاعدة الخلافية تنظير لما يعرف اليوم بالشركات ذات المسؤولية المحدودة ؟
و عندما فرغنا من منهج الزقاق في القواعد و قبل الشروع في تكميل المنهج للشيخ ميارة الفاسي، أرشدني أن ألخص القواعد في شكل جدول من ثلاثة أعمدة : عمود أضع فيه نص القاعدة الخلافية و عمود ثان أضع فيه ما يندرج تحتها من الفروع الفقهية و عمود ثالث أضع فيه الراجح في المذهب من الخلافات المنطوية تحت القاعدة على أن استعين في ملء العمود الأخير بتأليف : "الدليل الماهر الناصحْ شرح المجاز الواضحْ على قواعد المذهب الراجحْ" للعلامة محمد يحي الولاتي، و هو كتاب فريد من نوعه لكونه كتاب قواعد وفقه.
و حدثني أنه زار محظرة الشيخ العلامة الورع : أحمدو بن محمذن فالْ الحسني في إطار بعثة من وزارة التوجيه الإسلامي فسأل تلامذتها - و قد تحلقوا شيخهم– ما هو الوزن الصرفي لكلمة ’’ملائكة’’ فانتصب في الحال للجواب منهم تلميذ لامع وقال مُصيبًا : وزنها : مَعافلة، لأنها من فعل ألِكَ على وزن فعِل، وقد تقدمت العين في بناء الكلمة على الفاء.
و ألكني إليه في اللغة معناه: كن لي رسولا، قال عمر ابن أبي ربيعة في رائيته المشهورة :
ألِكْني إليها بالسلامِ فإنهُ
يُشهِّرُ إلمامي بها و ينكِّرُ