هل تبخر شعار التناوب السلمي على السلطة في موريتانيا ؟ *

أحد, 2020-08-16 19:09

بين انقلابات القصر وانتخاباته تأرجح حلم التناوب السلمي على السلطة في موريتانيا ؛ رغم تعزيز مؤشراته بقوة في انتخابات 2019 الرئاسية ، حين سلم رئيس منتخب انقضت مأمورياته الدستورية كرسي الرئاسة لرئيس منتخب في ظروف مثالية سياسيا؛ ولو شكليا ، فالرئيس السابق وخلفه رفاق سلاح ورفاق سلطة ونفوذ منذ انخرطا معا في لعبة الانقلابات والقيادة المباشرة للدولة بعد أن كانا رجال ظل ؛ وإن بتفاوت في التخصص والمهات.

لكن المتغيرات المتسارعة كشفت المستور فتبخرت خطابات التنصيب والانصراف الاستعراضية بين الرجلين في سخونة الصراع السياسي بأثر رجعي احتدم في أشهر بين رفاق الأمس.

بكى الرئيس غزواني في خطاب تنصيبه وهو يثني على الرئيس السابق بعبارات بديعة ؛ وكان خطاب الرئيس السابق أنيقا في عبارات الثناء على خلفه .

لكن المشهد السياسي في موريتانيا عاد للارتباك تماما ، فما جرى ويجري هو معركة كسر عظم شرسة بين الخندقين!

صعد الرئيس السابق في ظروف استثنائية بدت فيها المؤسسة العسكرية أكثر تماسكا خلفه ؛ حتى أن مصادر فرنسية أكدت أن غزواني رفض غداة اتفاق داكار مقترحا فرنسيا بتصعيده رئيسا لموريتانيا بدل عزيز .

لكن تلك النخبة العسكرية عام 2020 لم تعد كما كانت مع عزيز ؛ ولا غزواني هو هو بعد حضور قوي لعزيز منذ 2005 حتى 2019 ؛ فقد اتسع الفتق على الراتق .

ويختلف الموريتانيون في زاوية رؤيتهم لما يبدو كحرب على الفساد ؛ لوجود أكثر من محدد للمواقف الحدية من ولد عبد العزيز .

خصوم الرجل وأعداؤه كثر ، فهم يحتفلون بنسق التعامل معه ومع أسرته والمقربين منه بطريقة استعراضية في كشف المخازن وجردها على الكاميرا للرأي العام ؛ وكأن القضاة الذين ينتظر منهم البت في الملف هم الرأي العام المجيش ضد الرئيس السابق بطريقة لم تشهدها موريتانيا من قبل.

ولخصوم الرجل السياسيين الذين كانوا أقرب نصير له زاوية مقاربتهم الخاصة لملفه ؛ فهم ألد خصومة من معسكر أعدائه التقليدي ؛ ولديهم من المعلومات مالم يطلع عليه أحد غيرهم ؛ فهم في الرئاسة وكل أركان الدولة ؛ يحتفظون لأنفسهم بحقيقة ماجرى بعيد عودته من الخارج ؛ وماصاحب ذلك من إعادة فك وترتيب للحرس الرئاسي وغيره من مفاصل الجيش .

كتلة أخرى من أعداء الرجل تتعجل إخلاء مواطن تركة تحكمه في القطاعات كلها لتباشر إحلال طواقمها البديلة نكاية به واستعادة لهيمنتها على سوق مشاريع الدولة.

وفي ذلك الخضم المتلاطم يتلاشى شعار التناوب السلمي على السلطة الذي هو عقد العقد الكبرى في بلادنا منذ 1978.

فلم تكن آليات التغيير السريع داخل القصر الرئاسي مابين 78 و84 إلا بالمؤامرة والمناورة السياسية القاصرة .

ولم تشهد بلادنا انتقالا سلميا للسلطة مصطنعا لرئيس مدني إلا عام 2007 بخلفية دعم عسكرية ؛ وسرعان ما اجتث انقلاب 2008 ذلك الأمل لندخل في دورة جديدة من المغالبة السلبية على السلطة والنفوذ والثروة حتى أوصلنا ذلك لفصول خاتمة تحالف غزواني وعزيز التي يرغم الرأي العام الموريتاني على متابعة حلقاتها مكرها.

وخلف المشهد فشل ذريع للديمقراطية الموريتانية الصورية ؛ فالبرلمان الذي يفترض أن يكون منصة رقابة وتشريع تحول مبكرا لكتيبة استطلاعية تحدد بدقة الاهداف التي على الانقلابيين تحييدها ؛ وتتحول عند احتدام المعركة السياسية إلى كتيبة دعم وإسناد ؛ كان ذلك جليا في انقلاب 2007، وفي مشهد 2019 قبيل نهاية المأمورية الثانية والأخيرة للرئيس السابق ؛ حين برزت كتيبة البرلمان الداعية لمأمورية ثالثة؛ ثم تحولت بقدرة قادر إلى لجنة برلمانية للتحقيق في فساد تسيير الرئيس السابق وطواقمه الحكومية؛ والأسرية !

واقع يؤشر لحقيقة واحدة هي أن مستوى الصراع على السلطة والثروة قد ارتفع بمعدلات خطيرة حقا؛ وأن تفكك مركز النفوذ الأول (المؤسسة العسكرية النخبوية ) قد أصبح حقيقة ؛ ففي الدورات السياسية السابقة ظل هذا القطب متماسكا ؛ رغم تفكيكه لمركز النفوذ المالي ؛ وإعادة ترتيبه حسب رغبة الرئيس السابق ؛ ورغم تفكيك شبكة الأمان السياسي الحزبي والاجتماعي ؛ والجهوي.
إن التناوب السلمي على السلطة لاقيامة للدولة الوطنية قبل ترسيخه عبر نظام مؤسسات وطنية تعيه كضرورة عاجلة، لكن ذلك يبدو بعيد المنال .

إن رسم خريطة للصراع السياسي في موريتانيا خلال العشرية القادمة سهل ؛ فالاحتمالات المفتوحة تتسع باتساع لائحة الحالمين بالسلطة والنفوذ داخل القصر الرمادي وحوله ؛ وبحجم الولاء المزيف الذي ينمو كالفطر حول كل رئيس ؛ ليكون حصان طروادته التالي.

لا أحد يستطيع التشكيك في خبرات الرئيس غزواني كرجل دولة تدرج في أهم المناصب الحساسة ؛ وراكم خبرات عسكرية وأمنية مهمة ؛ لكن خبراته السياسية تواجه امتحانا صعبا فشل فيه كل الرؤساء السابقين ؛فهل سينجح هو فيه.

لاشك أن الحرب على الفساد ضرورة ذات أولوية قصوى ؛ لكنها لن تكون حربا على الفساد مالم ينزع فتيلها السياسي ؛ ومالم تنظر بعين الاعتبار إلى أن الحرب على الفساد لايمكن أن تكون بانتزاع غلة مفسدين سابقين لتسليمها كغنيمة حرب إلى مفسدين جدد.
ولامصداقية لحرب على فساد يستثنى فيه مفسد ويحاسب آخر ؛ ولامصداقية لحرب على فساد تدار بالصوت والصورة على الميديا الشعبي .

والأهم من ذلك كله الانتباه إلى أن بلدنا توغل عميقا في متاهة الصراع السلبي بعبثية غوغائية لامثيل لها في العالم ؛ وأن ديمقراطيتنا تحولت عبر الأداء المقيت للبرلمان وعبر آليات الانتخاب إلى طابور خامس أعاد بلادنا لعصور السيبه .

إن حجم الاحتقان غير المرئي أكبر مما هو ملحوظ.

ومع اقتراب ضخ عائدات الغاز وتنامي مداخيل الدولة من إصلاح اقتصادي متوقع ؛ فإن وتيرة دفن التناوب السلمي على السلطة ستتسارع دون شك.

حفظ الله بلادنا من كل سوء

*عبد الله ولدبونا