حرية ميديا : في هذا اليوم ال30 من يوليو 2014 و أنا في مكتبي بإذاعة موريتانيا.. حيث تقدم أقداح الشاي على مر النهار.. و حيث يزدحم عدد من مديري القطاعات و رؤساء المصالح.. و تارة المستخدمين الصغار في الإذاعة.. في هذا الجو.. يدخل زائران غير غريبين مع أنهما لم يكونا مدعوين.. إنهما الزميلان بدر ولد موسى, الإعلامي و الشاعر الذي ينحدر من مدينة أطار و الفني محمد ولد البشير الذي هو من قرية اعويفيه ( 50 كلم على طريق روصو)..
رددت على تحيتهما و أنا أداعب لوحة مفاتيح الكمبيوتر الشخصي الذي كنت أقرأ على شاشته الرسالة الأخيرة للعقيد المرحوم أحمد سالم ولد سيدي الذي يوجهها لزوجته مان بنت إحبيب ولد أحمد سالم..
سألني أحدهما عما أقرأ فرددت عليه الجواب و ما كاد بدر ولد موسى يسمع اسم العقيد أحمد سالم ولد سيدي حتى صرخ.. ( هذا البطل التروزي.. سمعت عنه كثيرا.. و لكن اسمحوا لي ان أقاطعكم لأروي لكم عنه هذه القصة التي نقلتها من في العقيد فياه ولد المعيوف..
فقد كنت مع العقيد فياه في بلدة يغرف, محل إقامته التقليدية بعد تقاعده.. و كانت معنا مجموعة ضيقة من أولاد آكِشار ( قبيلة الضابط)..
كان فياه يجيب على أسئلة ذويه المتعلقة بذكرياته عن حرب الصحراء..
يرمي هؤلاء الأشخاص من وراء هذه الأسئلة المتباينة إلى تكوين فكرة عن الضباط القدامى الذي تميزوا ببسالتهم و شجاعتهم أثناء هذه الحرب تحت إمرة فياه عندما كان يقود المنطقة الشمالية..
أحد الحاضرين سأل عما كان يتردد لدى العامة من شجاعة العقيد أحمد سالم ولد سيدي..
عند ذلك أشرق وجه فياه, الذي صمت لبرهة قبل أن يستمر قائلا: " العقيد أحمد سالم ولد سيدي كان ضابطا عديم النظير.. كان يتمتع بخصلتين اثنتين: الهدوء التام في جميع المواقف و الشجاعة في وقتها..
أتذكَر تنقلا جمعني به في الصحراء الغربية عندما التحق بي في مهمة عسكرية سرية..
كانت مهمتي تقتضي القيام على جناح السرعة بجولة تفتيشية للوحدات العسكرية في الصحراء..
وافق على مرافقتي و استقل معي سيارة القيادة.. جلس في المقعد الخلفي إلى جانب عنصر الاتصال.. و جلست في المقعد الأمامي إلى جانب السائق..
كانت الشمس تميل إلى المغيب.. و كنا نتحرك على أرضية مستوية تقطعها بين الفينة و الأخرى تعرجات رملية صغيرة..
و أتذكر أن أحمد سالم كان يمسك بيده علبة بها بعض حبات الفول السوداني..كان بتلمظ حباتها بهدوء تام مصغيا بأذن واعية إلى تعليقاتي على المخاطر التي نواجهها على هذا الطريق..
كان يحدثني أنه يفضل الفول السوداني على الأطعمة الرديئة التي نقدمها على مستوى جبهة القتال..
طلق ناري قوي فوق هاماتنا عبر الكثبان الواقعة سمتنا إلى الأمام.. إنه كمين..!
.. أخفى أحمد سالم علبة الفول في جيب بزته بكل هدوء و أخذ بندقيته و علبا من الذخيرة الحية و بحركة واحدة قفز أرضا..
و ما كادت قدماه تلامسان الأرض حتى كان يتمترس خلف مرتفع صغير من الأرض و يرسل وابلا من الرصاص من فوهة بندقيته..
قلت في نفسي إنه يعرض نفسه لخطر كبير.. لقد كان عملاقا.. و كان جسمه مكشوفا للناظر من ألف جهة.. و كان يواجه رماة أفذاذا..
كان يرفع إصبعه عن الزناد لمدة ثوان ليأخذ حبات من الفول يرميها في فمه قبل أن يتابع إطلاق ناره الشرسة..
كان إطلاق النار قويا من الجانب الآخر.. لدرجة أننا نحن في السيارة كدنا نهلك لولا أن قررنا أن نترجل..
كان يتلمظ حبات الفول و يتابع الرمي ببندقيته غير عابئ بالخطر..
كنت مشغول البال.. مركزا ناظري على هذا الضابط الذي لا أحب أن أفتقد مثله في البسالة و الشجاعة..
لقد استغرقني المشهد لدرجة أنني لم أحرك ساكنا.. كانت بندقيتي بيدي.. و لكن لا جدوى من إطلاق النار.. فقد كفاني أحمد سالم مؤونة ذلك..
بدأ صوت بنادق المهاجمين يتراجع..يخفُت.. يتباعد.. يؤشر إلى الضعف.. يتلاشى..
دامت المراماة حوالي عشر دقائق على الأكثر.. و عندها بدأ المهاجمون في الانسحاب..
نهض أحمد سالم و سار بخطر مطمئنة إلى السيارة..
و بنبرة لا تخلو من تهكم خاطبته قائلا:" هل قدَرت الخطر الذي عرضت له نفسك بقضمك الفول السوداني و أنت في ميدان المعركة؟!"
و أجابني بابتسامته البراقة قائلا: " إن للفول السوداني, أيها العقيد, نكهة مثيرة..!!"..