"يعتبر الأدب واحدا من أبرز مكونات الحضارة الإنسانية عامة، والحضارة العربية الإسلامية على وجه الخصوص. فلا يخفى على أحد الوجه المشرق الصبوح للأدب العربي عبر عصوره منذ الجاهلية مروراً بالعصر الإسلامي والأموي والعباسي وانتهاء بالعصر الحديث. ومعلوم أنّه مع توسع الفتوحات الإسلامية، انتقل الدين الجديد وعلى جناحيه القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وفي طياته اللغة العربية وما فيها من أدب وحكمة.. فتعلّم الأعاجم اللغة وأتقنوا الأدب وتفننوا فيه، حتى صار حظهم منه موفوراً، فأنشأوا الشعر، وكتبوا النثر، وصنّفوا الكتب العلمية". د. الحسن بنيعيش
لا شك أن الأدب هو مقياس وعي الأمم يجسد التاريخ ويبرز تراكم العطاء ومكامن وآفاق الإبداع الحمال لسبر معاني التأمل إلى صفاء النفس التي تنكر الخرافة وتؤمن بالحق في داخلها ومن حولها. وليست "إلياذة L’Iliade" عن حرب طروادة، ملحمة الشعرية/ترجمها إلى العربية سليمان البستاني"، والملحمة الثانية"الأوديسيةL’Odyssée " عن مغامرات يوليس Ulysse لهوميريوس، Homère, Poète aède* " شاعر إغريقي " أعمى" مشكوك في حقيقة وجوده أعلى مثلا لتمجيد أمة برعت أكثر في النحت والفلسفة. فملحمتا الإلياذة والأوديسة الشعريتين هما في الواقع أسوء تعبير عن المسار الأدبي اليوناني بما رسختاه في العقول وأبقيتاه في النفوس من الإيمان المهتز بالخرافة التي تمحورت حول تعدد الآلهة (زيوس، بوسايدون، أثينا (ميثولوجيا)، أبولو، هيرميس، آريس، آرتميس، ديونيسوس،) وكثرة صراعاتها الشريرة بالصواعق والرعود ألسنة البروق الحارقة للسيطرة على البشر؛ صراعات طبعها سوء المقاصد وعمق التفنن في المكر على خلفية سرعة عقد الارتباطات وفك التحالفات إلى ذلك كله حتى أبتدعوا من ذلك كله آلهة بشرية يدعونها "أنصاف آلهة" أي ذرية "مختلطة" بين البشر والآلهة بالاغتصاب أحيانا (هرقل بن زوس، وثور، والأمير أوديسيوس "يوليس" عند عودته من طرواة (الأوديسة) واللائحة طويلة؛ مد خرافي ما زالت تماثيلهم خير شاهد عليه.
ولكن "الفلسفة" نشأت وتأسست مع الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد واستمرت خلال الفترة الهلنستية، وقد تناولت مجموعة واسعة من المواضيع شملت:
- الفلسفة السياسية،
- والأخلاق،
- والميتافيزيقيا،
- وعلم الوجود،
- والمنطق،
- وعلم الأحياء،
- والبلاغة،
- وعلم الجمال
واستنطقت في أبعادها كلها العقل والسلوك وقربتهما إلى إدراك مكنونات النفس البشرية ولكنها ألهمت مع العرب بترجمتهم لها "السمو" بها فقننتها ونقتها من شوائب "الوثنية" وأغشية "الخرافة" ثم دفعتها إلى حيز الإحساس بالسمو والتوازن والإبداع. وقد قامت حركةُ الترجمة اليونانيّة العربيّة لتتوسع كثيرا أواخر الفترة الأموية وفي العصر العباسي الأول. فيها تم ترجمة كتب كثيرة في الرياضيات والفلك والطب والفلسفة الإغريقية من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية.
ثم أعاد العرب المسلمون إلى الأوروبيين "اليونانيين" أثناء قيام الدولة الأندلسية مُصَححَ أعمالهم وعصارة عقولهم، إذ ذاك، في سياق جديد أزاح الخرافة وأدران الوثنية،. ومن أشهر هؤلاء الفلاسفة العرب المسلمين (الفارابي، ابن سينا، الكندي، الشيرازي، ابن ماجه، ابن رشد، ابن الهيثم، الغزالي، ابن النفيس،...).
وأما الأدب العربي فلم يستلهم من الأدب اليوناني أي وجه من الأوجه التي يتمحور حولها، لا في الشكل الفني والإيقاع أو البنية الجمالية والمقاصدية، حيث القصيدة العربية فريدة في كل ذلك منذ أن نطق العرب بلغتهم. ولكن الأدب العربي لا يحتمل المساس بركيزتي خيمته:
ـ محور قيامه وبنيته التي هي الإلهام - رسول صفاء العقل ونبله - ولا يرتجل للتكسب والتقرب الرخيصين.
ـ ورفعة مقاصده التي تعبر عن "عرامته" في سموه والتزامه بتقدير الحرف الشكل والقافية.
وللعرب اليوم المثل الأعلى في شعراء كل الحقب، عبر التاريخ العربي والإسلامي، القدوة الحسنة التي لا يحرك أساساتها الزمن في تقلباته ولا المدارس النقدية الشرقية والغربية على حد سواء في تنوعها و جديد مستوجبات التحسين والتقويم والتوجيه في البنية اللغوية والإيقاعية؛ مستحدثات وتوجيهات ما تلبث بعد التنظير أن تجد المبتكر، لدى هذه المدارس، كاملا في هذا الأدب الذي نسجت خيوطه لتبقى سائغة خالصة عبر الحقب.
يبقى أن يعلم الذين يحسبون أنفسهم على الأدب في بلاد المليونيات، أنهم مطالبون بإدراك بُعده ـ بهذه المواصفات ـ عن التملق والتزلف والارتجال والنسخ والتحوير والتحصيل النفعي، وأن الذي يصيب الساحة الأدبية من ركود في الإبداع، وانحراف عن الرسالة السامية، ونضوب في المخرج والمنتج، ومهاترات وتمزق، هو النتيجة الحتمية لهذا الخروج السافر عن "منطقه السامي" الذي استطاع أن يمخر "عباب الزمن" ويصمد في كل حقبة من "حقبه" أمام هذه الانقلابات التي تدبرها، بلا وازع أدبي، أو نفس إصلاحي، أيدي وألسن "محترفي" التملق الأدبي و"السمسرة" الكلامية بأدوات الماضوية الظلامية، و أن يعلموا أن البقاء في ساحات الأدب لا يكون إلا لأصحاب الإلهام الذي لا تتحكم فيه غريزة الطمع مهما أبعدوا.
وتشبه اليوم حالة الأدب في بلاد "المليونيات" - من حيث الغياب الصارخ للمخرج وضعف الإلهام وترهل القرائح ـ حالةَ عصر "الانحطاط" الذي طبعه الضعف فحل تراجع العطاء و انتشرت معاقرة الركاكة و اعتلاء صهوات الزخرف اللفظي وتقليد الشعراء الأقدمين بالسرقة والتشويه، ونزلوا إلى درك الابتذال والاقتصار على النظم لغرض الإطراء والمديح تقربا من أصحاب النفوذ والمال والسطوة. وأما النثر فـ"شحيحه" يقتصر على التناول شبه العلمي و الرسائل وللتحرير بجهد بالغ النصوص البسيطة في التدوين وتركيب المحتوى إن لم يكن نسخا قصا وتحريفا من الشبكة العنكبوتية بما أصبحت يتيحه تقنيات النشر والحفظ الرقمي المتقدمة.