غامبيا تصنف على أنها أفقر بلد أفريقي بميزانية تقدر بمئة مليون دولار للعام الواحد بحيث تتخذ من الزراعة بابا رئيسيا للدخل الوطني قدمت الدول العربية الغنية الكثير خلال القرن العشرين لدول العالم الإسلامي الفقيرة، وخاصة في القارة الأفريقية، من خلال المشاريع الخيرية والعطاء الإنساني، بينما تركت تلك الدول لقمة سائغة بيد الغزو الإيراني فكرياً وسياسياً وحتى تبشيرياً، وليس أدل على ذلك من منظمة حزب الله النيجيري الذي قضت عليه السلطات قبل أيام، وله نسخ متعددة في هذه الدولة أو تلك، واليوم إذ يجري الإعلان عن تحالف عسكري إسلامي لمحاربة الإرهاب، تبدو تلك الدول في مفترق طرق، لتغادر الفلك الإيراني وتلتحق بالركب الذي تقوده السعودية ودول الخليج.
قبل التحالف العسكري الإسلامي، كانت دول مثل غامبيا، تسمح لنفسها بالميل إلى إيران ومشاريعها، حتى يصل السلاح إلى داخلها، كما حصل مع غامبيا في العام 2010، حين اكتشفت وجود شحنات عسكرية إيرانية داخل أراضيها، ما اضطرها إلى قطع علاقاتها بطهران، لكن هذا سبق وتكرر مع المخلوع علي عبدالله صالح، ولم يمنعه لاحقاً من اللجوء إلى دعم إيران من خلال الحوثيين، وقد يتكرر مع دول أخرى، إذا ما ترك المحور العربي الإسلامي تلك الدول في المهب الإيراني.
رئيس غامبيا صاحب الانقلاب غير الدموي والتصرفات الغريبة، هكذا يمكن وصف شخصية يحيى جامع، الرجل الذي وصل إلى السلطة في وقت مبكّر من عمره وظل فيها خالداً على كرسي الحكم كدكتاتور يهندس ويرسم الخطط للبقاء لسنوات قادمة.
هذا ليس مشهداً في رواية تاريخية بل حكاية حقيقية تقع فصولها المتتالية في بلد اسمه غامبيا، يُعرف بأنه البلد الأصغر في أفريقيا، بحيثُ يمتدّ على أطراف النهر الكبير الذي حمل اسم البلاد منذ الأزل.
تلك الدولة التي تقع في الغرب الأفريقي وتطل على سواحل المحيط الأطلسي لتحيط بها السنغال من جوانبها الثلاثة الباقية، لتقوم أقسامها الإدارية على أحد عشر ألف كيلو متر مربع، يسكنُها ما يقارب من مليون ونصف مليون نسمة يتفشّى بينهم داء الملاريا بصورة قاتلة بينما لا يتعدّى فيها متوسط الأعمار الثانية والخمسين عاماً للفرد الواحد.
غامبيا وعصمة الدول
أفقر بلد أفريقي بميزانية تقدّر بمئة مليون دولار للعام الواحد فقط بحيث تتخذ من زراعة الفول السوداني والقطن ونخيل الزيت والأرز، باباً رئيسياً للدخل الوطني الذي يعاني من الشح بصورة مخيفة. غامبيا التي ضربها التاريخ بتحولاته المريعة ككل الجغرافيات على الكرة الأرضية فانتقلت بفعل القوة التي تصنع الحق وتحميه من عصمة دولة إلى عصمة دولة أخرى حتى انتهاء الاحتدام الفرنسي البريطاني الاستعماري على تلك البلاد بتوقيع اتفاقية فرساي حيث آلت غامبيا إلى مظلة الكومنولث التي تتبع للتاج الملكي البريطاني.
في عام 1965 نالت غامبيا استقلالها من السلطة البريطانية. فاختار الشعب فيها نظاما للحكم يشبه بريطانيا كملكية دستورية وليكون داود جارا رئيس الحكومة الأول فيها بعد أن فاز حزب الشعب التقدمي في الانتخابات التشريعية الأولى. وعلى طريق الأنظمة الدكتاتورية التي يحكمها الحزب الواحد استقر حزب الشعب التقدمي في السلطة عقوداً متتالية حتى عام 1994 حيث وقع الانقلاب العسكري الذي أوصل يحيى جامع بدوره إلى أعلى هرم السلطة وليعلن بعد عقدين متتاليين تحويل غامبيا إلى دولة إسلامية.
القائد التاريخي
بعد ثلاثة أشهر من استقلال غامبيا عن بريطانيا، ولد يحيى عبدالعزيز جموس جونكونك ديليو جامع في كانيلاي بغامبيا في الخامس والعشرين من مايو لعام 1965، في بيئة مليئة بالمشاكل الصحية والفكرية. وعلى خطى الأطفال في تلك البلاد تعلّم يحيى جامع في مدارس الكتاتيب المنتشرة بكثرة في الريف الأفريقي عموماً قبل أن يصل إلى السن التي تؤهله لدخول الجيش ليكون ضابطا مغمورا في صفوف الجيش الجديد الذي بدأ تكوينه مع الدولة الوليدة، وما هي إلا سنوات حتى استطاع الملازم يحيى جامع في سنّه التاسع والعشرين أن يقود انقلاباً أبيض على السلطة في البلاد.
في أولى خطواته نحو تعميق السلطة الجديدة قام بإقصاء معارضيه وقتلهم بعد أن أصدر قرارا بترقية رتبته العسكرية من ملازم إلى عقيد في الجيش بوصفه المخلّص والمنقذ للبلاد من أتون الجهل والتخلف.
طريق الدكتاتورية يتشابه في بقاع مختلفة من الجغرافيا فكما فعل جامع فعل آخرون في الشرق الآسيوي والأفريقي. الدكتاتورية التي تحتاج غطاء سياسيا هندسه الشاب الحالم بالأبد من خلال “التحالف الوطني لإعادة التوجيه و البناء” كحزب سياسي قدّم من خلاله الرئيس الجديد نفسه في انتخابات أعيد انتخابه فيها أعوام 2001 و2006 و2011 على التوالي.
الدولة الإسلامية
الرئيس الذي أنهى أربع فترات رئاسية متتالية، استبقَ الانتخابات القادمة بعد عام تقريباً بإعلان غامبيا جمهورية إسلامية، لم يكن هذا الإعلان هو الأول الغريب في سيرة الرجل. فيحيى جامع الجنرال القديم الذي وصل إلى عقده الخامس من العمر، أعلن في عام 2007 عن توصله إلى علاج باستخدام الأعشاب لفيروس الإيدز القاتل، فضلاً عن الترويج الدعائي والإعلامي الذي تمارسه دوائر السلطة القريبة منه حول علومه المعرفية الموسوعية فيما يتعلق باستخدامات الأعشاب والحشائش في علاج الأمراض المزمنة.
سياسياً فاجأ يحيى جامع عام 2013 منظمة دول الكومنولث التي تتبع للتاج البريطاني بسحب بلاده من تلك المظلة الجامعة للمستعمرات البريطانية القديمة، حين أعلن أن وجود غامبيا في تلك المجموعة هو إقرارٌ بتنفيذ خطط الهيمنة الغربية على جميع دول العالم الثالث. هذا الإعلان أتبعه الرجل بمحاربة اللغة الإنكليزية الرسمية في البلاد بوصفها إرثاً استعمارياً يجب التخلص منه.
حظر اللغة الإنكليزية التي تتحدث بها أجيال من شعب غامبيا باعتبارها لغة التعليم والتواصل الرسمي، لحقَه في الحادي عشر من ديسمبر الجاري، حديث تلفزيوني للرئيس الغامبي أعلن من خلاله تحويل البلاد إلى دولة إسلامية بهدف تخليص غامبيا بشكل أكبر من ماضيها الاستعماري، فقد قال حرفياً “تماشياً مع الهوية والقيم الدينية للبلاد، أُعلن غامبيا دولة إسلامية، ونظراً لأن المسلمين يمثلون غالبية في البلد، لا تستطيع غامبيا مواصلة الإرث الاستعماري”.
الإسلام المختلف
من خلال البحث العميق عن البيئات الحاضنة للأفكار الإسلامية التي خرجَ منها يحيى جامع، أو أبو بكر شيكاو زعيم داعش أفريقيا مثلاً. نجدُ أنّ تلك البيئات تتخذ من الإسلام راية لها، تلك الراية التي تُخبئ في ظلها الجهل المخيف لعامة الشعب حول الإسلام وعقيدته التي اختلطت بكثير من الأفعال والطقوس الوثنية القديمة.
وهذا تمكن ملاحظته من خلال تحويل الأئمة إلى مرتبة الآلهة بحيث يتم التقرب منهم كما لو كان الإنسان في حضرة الإله. فمثلاً يجب أن يصل الناس إلى منازل الأئمة بعد نزع الأحذية من مسافة تصل أحياناً إلى 2 كيلومتر فضلاً عن لصق صور إمام المنطقة على رأس كل صفحة من صفحات القرآن الكريم، واللجوء إلى السحر والشعوذة والدجل تحت عناوين الرقى الشرعية.
وبالنظر إلى المقطع العرضي للبلاد التي تمتد على ضفتي نهر غامبيا بمدينتها الواحدة نجدُ أن المسلمين يشكلون من مختلف الأعراق المتواجدة على تلك الأرض ما نسبته 95 بالمئة من الإجمالي العام للسكان وهذا ما يضعنا أمام جدوى الإعلان الرئاسي الجديد ليحيى جامع.
سيكولوجيا صناعة الإرهاب
في قراءة لملامح شخصية الدكتاتور فإنه يشبه إلى حد بعيد لاعب الورق الذي يمسك بين أصابعه بكل السلطات التي يربطها بشخصه مباشرة، هذا ما فعله تماماً يحيى جامع منذ اعتلائه السلطة في عام 1994 بغامبيا.
تلك العشرون عاماً التي قضاها في السلطة يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل، الأولى تمتد من عام 1994 إلى عام 2006 والتي اتسمت بسعيه نحو التخلص من كل التركة التي صنعها النظام السابق، وتهييئ نفسِه ليكون القائد الأوحد في التاريخ والحاضر معاً من خلال إطلاق كل الإمكانيات لقدراته الشخصية.
الحكومة الغامبية كشفت في العام 2010 عن شحنات أسلحة إيرانية كانت تتدفق عبر الحدود بشكل غير شرعي
وفي سبيل هدفه ساعدته ماكينة إعلامية وسياسية لترسيخ ذلك في المجتمع الذي يعاني أصلاً من مشاكل عديدة. عقب محاولة الانقلاب التي استهدفته عام 2006 من مجموعة من العسكريين الذين حاصروا قصر الرئاسة خلال غياب جامع عن البلاد، وقد قيل حينها إن هذه المحاولة كانت بدعم من السنغال لمتمردين بهدف إعادة الهيمنة السنغالية على غامبيا التي شهدت اتحاداً في تاريخها مع السنغال تحت اسم سنغامبيا، ما لبث أن تحول إلى معاهدة صداقة بعد سنوات قليلة.
أما المرحلة الثالثة من حكم يحيى جامع فقد بدأت عملياً منذ 2013 حين بدأ النظام الحاكم بالهجوم على التركة الاستعمارية في البلاد ممثلة بمنظمة الكومنولث واللغة الإنكليزية وطرد ممثل الاتحاد الأوروبي في غامبيا وتحويلها مؤخراً إلى دولة إسلامية.
وبإعلانه دولته جمهورية إسلامية، وضع يحيى جامع بلاده على خارطة الشطرنج، فإما أن تشدّه ما تسمى بالجمهورية الإسلامية في إيران، أو أن يعلن شعار الحرب على الإرهاب، لينضم إلى الأسرة الإسلامية والعالم المتحضر.
بالتوازي مع حالة الرئيس يحيى جامع يُطالعنا معلم معماري بارز في بانجول عاصمة غامبيا، ذلك المعلم يعرف شعبياً باسم “آرخ” أو القوس، الذي يعتبر الأكثر ارتفاعاً في البلاد حيث يصل إلى أكثر من 35 مترا.
ذلك الرمز تم بناؤه احتفالا بذكرى الانقلاب العسكري الذي قاده جامع وصولاً إلى الحكم والسيطرة على مقدرات البلاد والعباد معاً، ومن خلاله فقط يمكن رؤية المدينة منبسطة، وكأن الرئيس يريد أن يقول للآخرين “أيّا كانت تسمية البلاد فإن رؤيتها لن تتم إلا من خلال إرادتي”، إرادته التي اختزلت الرحلات الأولى للتجار العرب المسلمين منذ قرون ناقلين معهم الرسالة التوحيدية إلى مجاهيل أفريقيا بتحويل غامبيا إلى دولة إسلامية في عهده وكأن الإسلام وصل إلى النهر العظيم اليوم فقط من خلال روح الرئيس غريب الاطوار.